زيارة أردوغان التاريخية للعراق- شراكة جديدة وآفاق استراتيجية واعدة

المؤلف: د. سعيد الحاج11.02.2025
زيارة أردوغان التاريخية للعراق- شراكة جديدة وآفاق استراتيجية واعدة

في بادرة تعكس تحولًا استراتيجيًا، وبعد انقطاع دام ثلاثة عشر عامًا، حطّت طائرة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في العاصمة العراقية بغداد، ومن ثم في مدينة أربيل، وبرفقته وفد رفيع المستوى، وذلك بهدف توقيع سلسلة من الاتفاقيات الثنائية الهامة بين البلدين الجارين. هذه الزيارة، التي وصفت بأنها ذات طابع تاريخي، تمثل بداية مرحلة جديدة ومثمرة في العلاقات التركية العراقية، وتفتح آفاقًا واسعة للتعاون المشترك في مختلف المجالات الحيوية.

زيارة فارقة

شهدت السنوات القليلة الماضية تصاعدًا في وتيرة التوترات بين أنقرة وبغداد، وذلك بسبب عدة قضايا خلافية، أبرزها ملف المياه، والعمليات العسكرية التركية المتواصلة في شمال العراق ضد عناصر حزب العمال الكردستاني، والتي تأتي ضمن إطار استراتيجية أنقرة في مكافحة الإرهاب الاستباقية. بالإضافة إلى ذلك، كان مسار استفتاء إقليم كردستان العراق عام 2017 نقطة خلافية أخرى. لذلك، ينظر إلى زيارة الرئيس أردوغان الحالية إلى العراق على أنها محطة تاريخية ومفصلية في العلاقات بين البلدين.

وإذا كانت زيارة الرئيس التركي إلى بغداد تحمل دلالات مهمة ولافتة، فإن زيارته إلى أربيل تحمل دلالات أوضح وأكثر تأثيرًا. فمن المعلوم أن أنقرة قد نسقت موقفًا ثلاثيًا مشتركًا مع كل من طهران وبغداد لمعارضة استفتاء الإقليم على الاستقلال، ولديها حساسية مفرطة تجاه هذا الأمر، وذلك تحوطًا من أي تداعيات سلبية محتملة على أمنها واستقرارها الداخلي.

وقد سبق هذه الزيارة تحضيرات مكثفة من كلا الجانبين، تمثلت في سلسلة من الزيارات المتبادلة رفيعة المستوى بين تركيا والعراق، وكذلك بين بغداد وأربيل. كما سبقها أيضًا تصنيف الحكومة العراقية لحزب العمال الكردستاني كمنظمة محظورة، وهو أمر بالغ الأهمية بالنسبة لنظرة الحكومة المركزية لهذا الحزب، وبالتالي للعمليات العسكرية التركية التي تستهدف مكافحته ومنع عملياته ضد الأراضي التركية.

في هذا السياق، تعكس الزيارة إرادة سياسية مشتركة بين الطرفين، بل الأطراف الثلاثة (بضمِّ الإقليم)، نحو تحقيق التهدئة وتجاوز حالة التوتر والتصعيد، والبدء في بناء مستقبل واعد للعلاقات الثنائية من خلال الحوار والتفاهم والتنسيق، بل والتعاون في مختلف المجالات ذات الاهتمام المشترك. ومن هذا المنطلق، لا يمكن فصل هذه الزيارة عن مسار تطوير تركيا لعلاقاتها مع عدد من الأطراف الإقليمية في السنوات الثلاث الأخيرة، مثل مصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. كما لا يمكن عزلها تمامًا عن بعض التطورات الإقليمية والعالمية، وفي مقدمتها تداعيات جائحة كورونا على الاقتصاد العالمي والاقتصادات المحلية، والحرب الروسية الأوكرانية، والعدوان على غزة، واحتمالات التصعيد في المنطقة، ولا سيما بين إيران وإسرائيل.

وخلال الزيارة، وقّع الجانبان 26 اتفاقية ومذكرة تفاهم، من بينها "مذكرة تفاهم بشأن الإطار الاستراتيجي" للتعاون المشترك، و"اتفاق إطاري للتعاون في مجال المياه" بين البلدين، ومذكرة تفاهم بشأن "مشروع طريق التنمية". كما وقّعت الوزارات والهيئات المختلفة في البلدين أكثر من عشرين اتفاقًا ومذكرة تفاهم أخرى في مجالات التجارة والسياحة والتعليم والصحة والأمن والعلوم والتكنولوجيا والاستثمار والرياضة، وغيرها من المجالات الأخرى ذات الاهتمام المشترك.

وفي المؤتمر الصحفي الذي جمعه مع رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، أكد الرئيس التركي أن المذكرات الموقعة تمثل "نقطة تحول حاسمة في علاقاتنا مع العراق"، مشددًا على توفير الدعم والتنسيق اللازمين لتنفيذ الاتفاقيات الموقعة بالكامل. كما أشاد أردوغان بشكل خاص باتفاقية "الإطار الاستراتيجي للتعاون المشترك"، والتي وصفها بأنها تشكل خارطة طريق قوية للبلدين في المجالات الاقتصادية والتجارية على وجه التحديد.

كما تركزت الأنظار بشكل خاص على اتفاقية "طريق التنمية"، التي جمعت إلى جانب تركيا والعراق، كلًا من قطر والإمارات العربية المتحدة. ويشمل هذا المشروع الطموح إنشاء طرق برية وسكة حديدية تمتد من العراق إلى تركيا، منها 1200 كيلومتر داخل العراق، وتربط بين دول الخليج العربي وأوروبا. وتبلغ الميزانية الاستثمارية لهذا المشروع الضخم حوالي 17 مليار دولار أمريكي، ومن المتوقع أن تنتهي مرحلته الأولى في عام 2028، والمرحلة الثالثة والأخيرة في عام 2050. ومن المتوقع أن يوفر هذا المشروع العملاق مليون فرصة عمل عند اكتماله.

آفاق مستقبلية

تنوعت مجالات الاتفاقيات ومذكرات التفاهم التي وقّعها الجانبان، إلا أن الأهم من بينها هو ما يتعلق بملفات مكافحة الإرهاب والمياه والطاقة، والتي تمثل أولوية قصوى لكلا البلدين.

فمكافحة الإرهاب، وتحديدًا حزب العمال الكردستاني، تقع على رأس أولويات أنقرة، وهو ما أكّده الرئيس أردوغان في المؤتمر الصحفي. ففي السنوات الأخيرة، انتهجت تركيا مبدأ "تجفيف منابع الإرهاب في مصدره" بمنطق الحرب الاستباقية، وذلك عبر شن عمليات عسكرية متتالية في شمال العراق. وقد تسببت هذه العمليات في السابق في توترات متكررة بين أنقرة وبغداد، وتحديدًا مع بعض المكونات الداخلية في العراق، وكثيرًا ما قوبل تأكيد أنقرة بعدم وجود أي أطماع لها في الأراضي العراقية باتهامات من بعض الأطراف بأنها قوة احتلال، ومطالبتها بالانسحاب من العراق.

كما أن دعوات أنقرة لبغداد وأربيل بالتحرك أو التعاون معها ضد المنظمة الانفصالية في كل من جبال قنديل وسنجار لم تلقَ آذانًا صاغية، أو لم تتحوّل إلى مشروع عملي لأسباب يصعب تفصيلها هنا. أما اليوم، وبعد اتفاقيات التعاون الأمني والتدريب العسكري، وعرض أردوغان مساعدة تركيا في هذا المجال، فضلًا عن تصنيف حزب العمال الكردستاني في العراق كمنظمة محظورة، تلوح في الأفق إرهاصات عملية واسعة ضد الأخير، إما بجهود تركية منفردة وتفهم عراقي، أو بتعاون الأطراف الثلاثة. كما تحدثت بعض المصادر عن أن أنقرة تسعى للتعاون مع كل من بغداد وأربيل لإنشاء منطقة آمنة على الحدود مع تركيا وداخل الأراضي العراقية، على غرار ما فعلته في سوريا.

في المقابل، يعلق العراق آمالًا كبيرة على الاتفاقيات المتعلقة بالمياه، ويتطلع إلى أن تساهم في حل المشاكل القائمة في هذا الملف، بحيث يكون هناك "تقاسم عادل ومتساوٍ" للمياه كما تنص الاتفاقيات، وأن يتم تصدير النفط العراقي إلى العالم عبر الموانئ التركية.

تعزز هذه الاتفاقيات، ولا سيما الاقتصادية والتجارية منها، الاعتماد المتبادل بين البلدين الجارين، وتهيئ الأرضية لمسار مختلف بينهما يعتمد على التنسيق والتعاون كبديل عن التوتر والتصعيد. كما أن "طريق التنمية" يمثل مشروعًا واعدًا سيربط بين البلدين أكثر فأكثر من حيث البنية التحتية، وكذلك العوائد الاقتصادية المنتظرة. ومع ذلك، فإنه لا يزال من المبكر الحكم على مدى قدرته على منافسة مشاريع أخرى لربط الخليج العربي بأوروبا، وفي مقدمتها المشروع الأمريكي الذي يمرّ عبر إسرائيل.

وفيما بين سطور تصريحات كل من أردوغان والسوداني، يتضح أن ملف المياه يمثل الأولوية القصوى بالنسبة للعراق، بينما الأمن ومكافحة الإرهاب يمثلان أولوية قصوى بالنسبة لتركيا. ومن المهم الإشارة إلى أن الإرادة السياسية التي أفضت إلى هذه الزيارة، ومن ثم الاتفاقيات الموقعة، تفتح الباب أمام تقديم كل طرف للآخر مساهمة ومساعدة في الملف الأكثر أهمية بالنسبة له.

زيارة أربيل

من جهة أخرى، لا تقل زيارة الرئيس أردوغان لأربيل أهمية عن زيارته لبغداد، وذلك بالنظر إلى مستوى العلاقة بينهما قبل فترة قريبة. كما أنه لا يمكن تصور تنفيذ معظم الاتفاقيات الموقعة دون دور واضح لإقليم كردستان، ولا سيما فيما يتعلق بأمن الحدود ومكافحة الإرهاب وتصدير النفط.

كما تساهم الزيارة وما تخللها من تصريحات ومواقف واتفاقيات بشكل مباشر وغير مباشر في حلحلة الإشكالات العالقة بين أنقرة وأربيل من جهة، وبين أربيل وبغداد من جهة ثانية، ولا شك أن ذلك كان جزءًا من محادثات الرئيس التركي مع الحكومة المركزية وحكومة الإقليم.

كما أن لقاء الرئيس أردوغان بالقيادات السياسية الممثلة للسنة والتركمان في العراق يوحي بمحاولة بلاده استعادة دور ما في المشهد السياسي الداخلي العراقي، على غرار ما كانت عليه في السنوات الأولى لحكم حزب العدالة والتنمية، وذلك من خلال الانفتاح على مختلف الشرائح. ويشير ذلك إلى سعي أنقرة لموازنة أدوار أطراف خارجية أخرى في العراق، وهو ما يبدو أنه يحظى بترحيب من أطراف داخلية هناك.

بشكل عام، تحمل زيارة الرئيس التركي للعراق، سواء إلى بغداد أو أربيل، رسائل سياسية هامة وإمكانات اقتصادية وتجارية واعدة، وتمهد الطريق لآفاق استراتيجية جديدة. وقد صيغت الاتفاقيات ومذكرات التفاهم الموقعة على أساس تحقيق الربح للجميع. ويشير ذلك إلى توفر الإرادة السياسية لدى الجانبين لأسباب داخلية وخارجية عديدة. إلا أن المحك الحقيقي سيكون مدى القدرة على التنفيذ من خلال الدعم والتنسيق ومواجهة التحديات القائمة والتدخلات الخارجية واستكمال المراحل العديدة، بما يمكن أن يحول مناخ التوتر الذي ساد في السنوات الماضية إلى جو من التفاهم والتنسيق والتعاون، بما يعود بالنفع على الدولتين والشعبين.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة